Comments System

LightBlog

الشيخ عبدالباسط عبدالصمد .. سألتني المضيفة ماذا تأكل فقلت لها "چاكرتا"!

بسم الله الرحمن الرحيم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد سألتني المضيفة ماذا تأكل.. فقلت لها "چاكرتا"! أنا رجل بسيط من أرمنت! لست أدري كيف استطاع أبي أن يشذّ عن عشرات الرجال الأشقاء من الفلاحين في أسرتنا ليصبح سائق قطار.. ولكن هكذا حدث! وجدي كان رجل علم ودين، وكان عضوًا مرموقًا في محاكم الخط القديمة.. هكذا سمعنا الأمهات يُباهين ويُفاخرن. وأنا ولدت من أربعين عامًا لأكون الثالث بين أربعة اخوة، محمود أكبرنا مدرس في الثانوية الصناعية بالهرم، وعبدالحميد مدرس بأرمنت، وآخر العنقود عبدالمنعم بالجمعية التعاونية للبترول. منذ بدأت أعي ما حولي كنت أجلس إلى جانب أي مقرئ يدعى إلى البيت فأقلده، وأحيانًا أقلده في مناسبة قائمة كمأتم فيكتم الرجال الضحكات ويقول لي أبي: "عبدالباسط هيُبجى فِقِي!". عباقرة التلاوة www.3baqera.net وكنت أسمع الشيخ محمد رفعت فتهتز كل نفسي، وأمشي كيلو مترين كل صباح إلى مقهى فيه راديو اسمع منه الشيخ محمد رفعت، وكنت أجلس على الرصيف حتى ينتهي من التلاوة وأنا مبهور بنبراته، أيامها كنت أحفظ القرآن على يد الشيخ الأمير في كتاب أرمنت، فلما حفظته تمامًا وأنا في العاشرة من عمري ذهبت إلى قرية قريبة اسمها "أصفون المطاعنة" لكي أتعلم القراءات في جمعية تحفيظ القرآن، وسمعت عن الشيخ محمد سليم في "إسنا" وقد ذاع صيته بتمكنه من القراءات فذهبت إليه بعد مرحلة "أصفون" وتتلمذت على يديه، وكنت أقرأ القرآن في كل أنحاء مديرية قنا قبل أن أبلغ السادسة عشرة، وفي التاسعة عشرة قال لي أبي: "ما دمت اخترت طريق الله فلا بد أن تتزوج حتى لا تقع في محظور"، وعلى عادة الصعيد تزوجت بنت عمي أم الأولاد الطيبة الساهرة وقدم السعد أيضًا، فبعد زواجي بأشهر زرت القاهرة أثناء مولد السيدة زينب وذهبت لأتبرك بزيارة مسجدها فوجدت شيخه بلدياتنا، إنه الشيخ الحفني -وقد كان يعرفني- فقال لي: "إقرأ لنا يا شيخ عبدالباسط ولو عشر دقائق"، أما العشر دقائق فقد امتدت في سرادق المولد إلى ساعة ونصف الساعة ولم أكن أعرف مَن حدثوني عن العمل في الإذاعة لأنني قلت لهم بلهجة الصعيدي "إذاعة إيه؟! أنا في قنا باخد خمسة جنية في الليلة أحسنلي من الإذاعة بتاعتكم"، فلما رويت ما حدث لأقاربي في القاهرة ضحكوا وقالوا "مين يطول الإذاعة!".. وفتحت لي الإذاعة أبوابها عام 1952 وبدأت أشق طريقي بين كبار المقرئين، وبدأت أتلقى الدعوات من البلاد العربية فضلاً عن الرحلات التي تختارني لها وزارة الأوقاف في رمضان!، ولكني ضعيف أمام كل نداء يجيئ من أعماق الصعيد بأن أذهب لمأتم أو مناسبة سعيدة، أجمل ما أذكره عن رمضان الصعيد أن المسيحيين كانوا يُشاركون فيه، وكنت أذهب إلى بيت فخري عبدالنور في جرجا لأتلوا القرآن للمسلمين من ضيوفه، ويظل البيت مفتوحًا طوال شهر رمضان، هذا مظهر عزيز أحب فيه بلدي، وقد سافرت كثيرًا وتنقلت من الرباط إلى رأس الرجاء الصالح، ومن چاكارتا إلى جدة وباريس، وإذا كنت قد صادفت من الحفاوة أو الأضواء في هذه البلاد ما أعتز به وأعتبره ميراثًا أدبيًا لأولادي فإنني عدت من أندونيسيا منذ ثلاثة أعوام بحسرة كبرى، فقد حدث وأنا في طريقي إلى چاكارتا أن جاءتني المضيفة ذات الشعر الأسود الفاحم والوجه المنبسط والعينين النقيتين وسألتني سؤالاً فقلت لها چاكارتا، طبعًا ظننت أنها تسألني أين أذهب فأجبتها كما ظننت چاكارتا، واستغرقت الفتاة في الضحك وأعادت السؤال فاسغرقت في الدهشة وقلت لها "قلتلك چاكارتا"، ودارت بين الركاب تسألهم أسئلة لا أعرفها ولم يتقدم أحد ليترجم بيني وبينها، فعادت من جديد وحدثتني باللغة الدولية "لغة الإشارة" وفهمت أنها تسألني ماذا أشرب وماذا ءأكل لتقدمه لي، يومها صممت على أن أتعلم اللغة الإنجليزية لأستطيع أن أرطن مع هذه المضيفة، وما أن استرحت من مشوار العودة حتى ذهبت إلى مدرسة فكس ودفعت مائة جنية لأتعلم الإنجليزية، وقد تعلمت حصتين ثم جرفتني المشاغل ففقدت حماستي، وفي العام الماضي تجددت حماستي فقد ذهبت إلى جنوب أفريقيا بدعوة من المسلمين فيها ولأن بيننا وبين جنوب أفريقيا ما صنع الحداد فقد ذهب إلى أحد المسئولين أسأله رأيه فقال "اذهب.. لا شأن للدين بالسياسة". وصاحبني منذ وصلت مترجم أتحدث به إلى الناس وأحسست أنني موضوع تحت حراسة شديدة أو بمعنى أصح مراقبة شديدة لازمتني في چوهانسبرج ورأس الرجاء الصالح وكل المدن الأخرى التي ذهبت إلى المسلمين فيها وتلوت لهم القرآن طوال شهر الصوم، وشاهدت من ضروب ظلم الأبيض للأسود ما ملأ نفسي سخطًا على الاستعمار المستبد، فقد زرت برجًا في چوهانسبرج يشبه برج القاهرة ولاحظت أن كل مَن فيه مِن البيض مع أنهم أقلية بحسب الإحصاء وسألت فقالوا لي أن الملونين يُصرح لهم بالدخول في يوم واحد من أيام الأسبوع وفي أماكن كثيرة يكتبون "ممنوع دخول الملونين والكلاب"، وإذا ذهبت إلى دار للسينما أو المسرح فللملونين شباك تذاكر خاص بهم حتى لا يُزاحموا البيض أو يلتصقوا بهم. هذا المقال من موقع عباقرة التلاوة كان مِن أحب مَن قابلت من الزعماء المسلمين الملك محمد الخامس ملك المغرب الراحل، فقد كان يحب الدين ويحب رجاله ويكرمهم، ولقد التقيت به إذ استدعاني حين زار مصر في يناير عام 1960 وذهبت إلى أسوان ليحضر احتفال بدء العمل في السد العالي فصحبته لأنه يحب أن يسمع قراءتي في صلاة الفجر التي يؤديها حاضرًا، وقال لي أنه كان يتمنى أن يستمع إلى صوتي منذ أن كان يسمعه وهو في منفاه، وحين انتهت زيارته لأسوان ذهبت إلى "أرمنت" لأرى أهلي، ولكني ما كدت أستقر ساعة حتى جاءني ضابط الشرطة ليقول أنه تلقى إشارة عاجلة بأن أسافر إلى القاهرة بطائرة بعد الظهيرة كطلب الملك محمد الخامس الذي سيؤدي صلاة الفجر بمسجد الإمام الحسين وهو يريد أن يسمعني هناك، وكان كل يوم يصلي الفجر في مسجد وأنا معه، فلما ذهب إلى السعودية أخذني بصحبته، ثم طرنا إلى المغرب وقال لي جلالته: "خذ ما شئت وأبق عندنا".. ولم أكن أتوقع عرضًا كريمًا كهذا، ولا كنت أستطيع تلبيته وأنا محمل بمسئوليات كثيرة في القاهرة فقلت لجلالة الملك "هذا فضل لا أستحقه، إنني أستطيع أن أجيئ إلى المغرب كلما دعوتني.. أمكث شهرًا أو شهرين من كل عام، ولكن لا بد من الإقامة في القاهرة لأنني مسئول عن عدد كبير من أقاربي". وقد أنجبت ثمانية، خمسة أولاد وهم محمد وخالد وطارق وعصام وهشام، وثلاث بنات هن نعمات وفايزة وسعدية، الأولى زوجة الأستاذ يوسف محمد أحمد وكيل نيابة السيدة زينب وبلدياتي من دشنا، وفايزة وسعدية في المدارس القومية؛ فالتعليم في نظري سلاح للمرأة يجب أن تتزود به. مقال من مجلة المصور عدد 1 ديسمبر 1967 م عباقرة التلاوة دار التراث القرآني

ليست هناك تعليقات