Comments System

LightBlog

الشيخ محمد رفعت .. صوت الشعب

بسم الله الرحمن الرحيم



الأصوات كالوجوه لكل منها سحنة خاصة! هناك أصوات تنفر منها، وأصوات تُدخل السرور عليك، وأصوات ترتاح إليها، وأصوات تجعلك -بالرغم منك- تعشقها وتحبها.

والأصوات كالمعادن، بعضها كالصفيح، وبعضها كالفضة، وبعضها له بريق الذهب، من هذه الأصوات الذهبية صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وفي الماضي القريب كان صوت الشيخ منصور بدّار الذي اعتزل القراءة وآثر الراحة في قريته.

صوت الشعب
ولكن هناك من بين الأصوات التي سمعناها -وما أكثرها- صوتًا يقف فريدًا غريبًا باهرًا، وسر غرابته -في رأيي أنا- أنه استمد طبيعته من جذور الأرض، إنه صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت.. صوت الشعب.. فمن أصوات الشحاذين والمدّاحين والندّابين والباعة المتجولين استمد المرحوم الشيخ محمد رفعت صوته، فخرج مشحونًا بالأمل والألم، مُرتعشًا بالخوف والقلق، عنيفًا.. عنف المعارك التي خاضها الشعب، عريضًا.. عرض الحياة التي يتمناها، ولذلك كُتب لهذا الصوت البقاء، وسيظل إحدى علامات الطريق في تاريخنا الفني الحافل.

ذخيرة الفنان ولقد نشأ الشيخ رفعت في حي شعبي ومات فيه، وفي منطقة البغّالة وحي السيدة زينب اصطخبت بأسماع الفتى الضرير الصغير أصوات كثيرة، استطاع أن يختزن منها ذخيرة ضخمة، واستطاع بعد ذلك أن يهضمها ويمضغها وأن يستخرج منها في النهاية صوته الخالد الذي نفذ إلى أعماق الناس فأبكاهم وأشجاهم، وهزّهم هزًّا. ولا يهز أعماق الناس كالحقيقة، وكالصدق، ولقد كان الشيخ صادقًا في انفعاله، وكانت طبقات صوته ونغماته حقيقية مأخوذة من واقع الناس ومن فنونهم ومن أسواقهم وندواتهم وأفراحهم البسيطة وأحزانهم العنيفة ومعاركهم القاسية مع الحياة. عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني الفن الرفيع ولكن الفنان العملاق رفعت لم يقنع بدراسة فنون البسطاء، بل راح ينهل من الفن الكلاسيكي الرفيع، وعندما مات خلّف ثروة كبيرة من اسطوانات باخ وموزارت وبيتهوڤن وليست، وعدة اسطوانات أخرى للعازف الكبير باجانيني، وكان رفعت يقضي أمسيات طويلة مع هؤلاء العباقرة الأفذاذ، يستمع إلى النغم الرائع الذي أبدعوه فظل مُخلدًا على الزمان. ومِن الدراسة الشاقّة الطويلة للنغم الرائع، وفنون الشعب، استطاع رفعت أن يبقى في عالم الفنون راسخًا كالهرم، خالدًا كرسالات الأنبياء. الزعماء ولم يكن مِن قبيل المصادفة أبدًا أن يقترن ظهور الشيخ محمد رفعت بظهور عبقري من نفس الطراز هو الشيخ سيد درويش، لم تكن مصادفة أبدًا؛ فقد كان الشعب قد اكتمل وعيه ونموه وترجم هذا الوعي وهذا النمو بثورة عام ١٩١٩، وفي خلال الثورة كان سعد زغلول يمثل روح الشعب الصلبة القوية المصممة على السير في الطريق الذي بدأته حتى النهاية، وراح سيد درويش يُلحن حياة الشعب الروحية. لأول مرة ليست هذه مبالغة، فسيد درويش ورفعت كانا زعيمين من طراز سعد، وكما التفت طبقات الأمة وطوائفها حول سعد، وكما طربت لسيد درويش.. تراها -وهنا العجب- تلتف حول رفعت بطوائفها، فلم يحدث أبدًا قبل رفعت أن استمع أقباط مصر إلى مقرئ!، بل إن استماعهم إليه كان بشغف وبحب وبإعجاب شديد. عباقرة التلاوة.. www.3baqera.net أساطير بل إن عظمة رفعت امتدت إلى خارج هذه الحدود، فقصة الضابط السكندري الذي انتهز فرصة وجوده في مصر خلال الحرب العالمية الثانية، وطلب من مدير الإذاعة أن يسهل له مقابلة رفعت.. وعندما التقى به بكى الضابط الكندي وقال (لم أكن أعلم أنه أعمى، والآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض به صوته العبقري). وحكايات أخرى كالأساطير شاعت عن الشيخ وذاعت.. وقصة الثورة التي أعلنها المستمعون عندما نشب خلاف بين رفعت ومحطة الإذاعة، حتى أن بعضهم هدد بعدم الاستماع إلى الراديو بالمرة، وهدد البعض الآخر بعدم دفع الضريبة إذا لم تخضع الإذاعة لرغبات رفعت العظيم. وقصة أبخل وأغنى رجل في العالم عثمان حيدر أباد الذي طلب من العبقري الشيخ أن يحضر إلى الهند -مع حاشيته- وبأجر مائة جنية في اليوم الواحد، مع التكفل بدفع نفقات الرحلة والإقامة من جيب الثريّ البخيل، وتقول الحكاية أو الاسطورة أن رفعت رفض عرض الرجل، وفضّل إحياء ليالي الفقراء بالمجان. البطل وأنا شخصيًا لا أعرف إذا كانت هذه القصص حقيقية أم مِن نسج الخيال، ولكنها على أية حال ترينا كيف أصبح رفعت بطلاً شعبيًا مثل عنترة وأبوزيد الهلالي، ينسج الناس حوله قصصًا خُرافية ولكنها -في الوقت نفسه- تترجم مشاعر الناس البسطاء حول الرجل العظيم. الفن الأصيل وعندما كان رفعت حيًا يقرأ في جامع فاضل باشا، لم يكن أحد من المستمعين يتصايح أو يرفع عقيرته بعبارات الطرب والإنسجام، كما يفعل المستمعون اليوم مع المشاهير من القراء، كان فن رفعت الأصيل يجبرهم على الصمت، ويقيّدهم في أماكنهم يحتملون أحيانًا فوق طاقتهم مِن ضيق المكان، ومِن حرارة الجو، ليستمتعوا بالصوت العبقري العظيم. هذه الحقيقة البسيطة تكفي وحدها -دون حاجة للأساطير- للدلالة على عبقرية صوته الغريب. شئ ثمين وحقيقة أخرى أبلغ دلالة، فالأغلبية العظمى مِن الأشرطة التي تُذاع اليوم للشيخ محمد رفعت لم يكن للإذاعة فضل فيها، بل الفضل كله لله ثم لعشاق الشيخ الذين لم يكونوا على صلة صداقة أو معرفة بالشيخ، بل دفعهم الحب المتين والاعتراف بعبقرية صاحب الصوت إلى تسجيل كل سور القرآن دون ما هدف إلا هدف الاحتفاظ بهذا التراث الخالد المجيد، فنرى باشا ثريًا هو زكريا مهران يحتفظ بتسجيلات الشيخ دون أن يكون قد رأى الشيخ مرةً في حياته. وهناك تاجر وطني كبير، وموظف سابق، وعمدة مِن عُمد الأرياف يحتفظون بنفس الشئ، لأنهم أدركوا بفطرتهم السليمة أن هذا الشئ يجب الاحتفاظ به.. لأنه ثمين. لماذا ظلموه دليل الحكايات الخيالية، والحكايات التي حدثت فعلاً دليل خطير، خلاصته أن هذا الشعب الذي ظلمناه طويلاً، ولا يزال بعض أدبائنا الكبار وفنانينا الكبار -الكبار سِنًا- يتهمونه بفساد الذوق وعدم التقدير وعدم الإحساس الفني شعب أصيل، أصيل في وعيه، أصيل في تذوقه وتقدير للفن، على شرط أن يكون فنًا حقيقيًا يستحق التقدير. هراء وقد يقول قائل ربما كان التقدير الذي حظي به رفعت راجعًا إلى حب الناس وتقديرهم للدين، وهذا هُراء؛ فقد كان مع رفعت مجموعة من المقرئين لا يمكن حصرها ولا عدّها، وكان من بينهم عمالقة لمعوا فترة ثم طواهم النسيان، ولم يبق من بين الجموع الحاشدة إلا رفعت وحده خير شاهد على أن الفن الأصيل يبقى وما عداه يزول. وفاء الشعب وحتى بعد موت رفعت، وبعد ان ضاع أمجد أعماله وهو صوته، وبقيت عدة أشرطة قديمة سيئة التسجيل بعضها يُسئ إلى رفعت أكثر مما يُحسن إليه، رغم هذا كله فقد أثبت الشعب أنه في وفاء منقطع النظير. مثلاً، وهذه حقيقة وليست خرافة، أقسم أحد كبار الجزارين أن جسد العبقري لن يُدفن إلا في المقبرة التي أعدها له، وكان قد أعد -في صمت وبلا ضجيج- مقبرة عظيمة تليق بعظمة الراحل الكريم، وأصر الجزار الطيب على أن يحمل نعش الشيخ بنفسه إلى مقره الأخير. شباب الإسلام ووفد على مأتمه آلاف مِن مختلف أنحاء البلاد لم تكن لهم صلة بالشيخ إلا صلة التقدير والإعجاب، وبكى مفتي سوريا عندما سمع الخبر وقال ولحيته مبللة بالدموع (رحم الله شبابه؛ فقد جدد شباب الإسلام). ولا يزال مجهولون كثيرون يزورون قبر الشيخ في صمت ليقرأوا الفاتحة على روح الفقيد، وبقيت في العاصمة وأنحاء أخرى متفرقة من البلاد مَقاهٍ تُخصَّص لمستمعي رفعت قاعات بداخلها ليستمتعوا بما تبقى مِن فنّ الشيخ في هدوء. حديث الأجيال وقد حدث أن قطعت محطة الإذاعة إرسالها أكثر من مرة لتذيع على الناس بُشرى العثور على شريط جديد للشيخ، وأذيع الشريط وكان حديث الناس في كل مكان وسيظل رفعت حديث الأجيال -كفنان عملاق- إلى زمنٍ بعيد. وسيأتي يوم تصبح فيه للفنون الرفيعة الخالدة جامعة، ويكون صوت محمد رفعت على رأس هذه الفنون والسبب -كما أوضحناه من قبل- هو أن كل فن خالد جميل يجب أن يستمد وجوده مِن حياة الناس، مِن فنون الشعب. من الأرض ولقد كتبت مرة سابقة عن رفعت فقلت أنّ سبب خلوده يرجع إلى أنّ صوته كان من السماء، والآن أعترف بخطئي وأعود فأقول أنّ سر خلود وبقاء ومجد الشيخ يرجع لسببٍ واحد، أن صوته العبقري نَبَعَ مِن آمال الناس وآلامهم، مِن أسواقهم وحواريهم، مِن أفراحهم الساذجة، وأحزانهم العنيفة، بعبارة أبسط.. لقد نبع صوته مِن جذور الأرض.

ـــ ألحان السماء.. أبريل 1959 م
عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني

ليست هناك تعليقات