الشيخ محمد فريد السنديوني .. ظهر فجأة واختفى فجأة
بسم الله الرحمن الرحيم
ظهر الشيخ فريد فجأة.. واختفى فجأة.. وقضى عشر سنوات طِوال واسمه يدوي كالطبل في أنحاء البلاد العربية.
وكان ظهور الشيخ فريد في بداية عام ١٩٣٨ وفي قريته سنديون بالمنوفية، ومِن ثَمَّ ذاع صيته في أنحاء المنوفية ثُم في المديريات المجاورة، ثم أصبح الشيخ فريد عَلمًا في مدينة القاهرة، وفي عام ١٩٣٩ أذاع الشيخ لأول مرة مِن إذاعة القاهرة، وفي عام ١٩٤١ كانت الصحراء تشهدحربًا عنيفة، وجيوش المحور تمسح رمال الصحراء العريضة بجيوش الحلفاء، وأصبح لإذاعة الشرق الأدنى -وكان مقرها فلسطين- أهمية بالغة؛ فاستدعت السلطات الانجليزية الشيخ فريد ليقرأ فيها بصورة دائمة، وسافر الشيخ فريد إلى فلسطين بمرتب قدره مائتا جنيه في الشهر، وفي عام ١٩٤٥ قفز هذا الرقم إلى خمسمائة، وفي بداية عام ١٩٤٧ وكان قد لاح في الأفق أن الأرض المقدسة ستُخَضّب بالدماء.. استغنت إذاعة الشرق الأدنى عن خدمات الشيخ السنديوني، فغادرها عائدًا إلى القاهرة، وقيل يومئذ أن خلافًا نشب بين الشيخ ومدير الإذاعة الانجليزي حول تصرفات غريبة لم يرض عنها مدير الإذاعة الانجليزي، وراح الشيخ يُذيع من محطة القاهرة فترة قصيرة، ثم لم يلبث أن عاد إلى فلسطين مرة أخرى وكان ذلك في نهاية ١٩٤٧، واتخذ مِن مدينة يافا مقرًا له.
ولكن القاهرة التي عَلّمته وانضجته، أنكرته عندما عاد؛ ذهب إلى الإذاعة في عام ١٩٤٩ ليقرأ مِن راديو القاهرة، لكن المسئولين رأوا عرضه على لجنة رسمية للامتحان!.امتحان!.. مقرئ مشهور في العالم العربي.. احترف القراءة عشرين عامًا.. ثم بعد ذلك كله، امتحان!!.وسكت الشيخ السنديوني ولم يتكلم، وفي يوم الامتحان ذهب إلى الإذاعة، ودخل الاستوديو، بينما كان في حجرة مجاورة عدة أشخاص أشبه بالمحلفين، في انتظار إصدار حكمهم له أو عليه، وكان بينهم المعمم الذي يفهم سر المهنة، والذي ليس له مِن موهبةٍ إلا صلة وثيقة بالقصر الملكي الذي كان يحكم البلاد. وأعطيت الإشارة للشيخ السنديوني لكي يقرأ، وبهت الجميع عندما ارتفع صوت الشيخ يُلعلع بالغناء!! ثم خرج صائحًا مِن الاستوديو: (ما دام عاوزين امتحان، أنا مستعد امتحن في الغناء، إنما في القراءة مستحيل، أنا مقرئ مِن عشرين سنة، وصوتي بيلعلع مِن إذاعات العالم!!)، ثم خرج الشيخ مِن الإذاعة ولم يعد إليها أبدًا. عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني وقضى عامًا بلا عمل، ثم أراد أن يحتج على هذا الوضع الغريب، وكان احتجاجًا فريدًا ولاذعًا؛ فقد افتتح الشيخ مقهى في شبرا، وجلس خلف "البنك" يتسلّم "المارك" ويعد المشاريب للزبائن الكرام. وذات ليلة باردة مِن ليالي عام ١٩٥٢ مات الشيخ السنديوني داخل مقهاه!. ولقد كان صوته غريبًا يقطر ألمًا وحزنًا ومرارة كحياته التي لم تستمر طويلاً؛ فقد مات الشيخ السنديوني في سن الأربعين. كان صوته يُشبه صوت الناي الحزين.. صوت مصري عريق، فيه صرخات وأنّات وزفرات الفلاحين الذين عاش معهم وتربى بينهم وانتهى إليهم آخر الأمر جثة بلا روح، فقد أوصى قبل موته أن يدفنوه على شاطئ الرياح في سنديون. عباقرة التلاوة.. www.3baqera.net وفي يافا كان بيته ندوة لأهل الفن، وكان أبرز ما فيه حبه الشديد للمعرفة والثقافة، وتعلقه الشديد بالمثقفين، وفي تلك الندوة كان يسهر كل مساء الشاعر والكاتب عبدالرحمن الخميسي وسامي داوود وعميد الإمام وسليم اللوزي، وتردد عليها أيضًا الأستاذ الكبير محمود عباس العقاد وإبراهيم المازني خلال زيارتهما الخاطفة لفلسطين. وكان مِن أصدقائه أيضًا ناصر الدين النشاشيبي وإبراهيم الشنطي صاحب جريدة الدفاع في يافا، وسعيد التلاوي صاحب الفيحاء في دمشق، وسعيد فريحة صاحب الصياد في بيروت. وعندما مات، رثته صحف العواصم العربية كلها ما عدا صحف القاهرة؛ فقد نشرت خبر وفاته في سطور.. وفي بداية عام ١٩٤٨ قبل بدء الحرب الفلسطينية بأشهر قليلة، كان الشيخ فريد يقرأ لآخر مرة في فلسطين، وفي مدينة القدس.. وكانت المناسبة وفاة عربي كبير يسكن المدينة التي أصبحت فيما بعد عاصمة لدولة إسرائيل.. وفي تلك الليلة نشب قتال وحشيّ بين شباب جمعية الأراجون الإرهابية والشباب العربي، وأصيب الشيخ يومها في رأسه.. فحزم أمتعته في المساء وعاد إلى القاهرة بقطار الفجر، وبعد أن خمدت النار في فلسطين ظل الشيخ يَحنُّ إلى الأرض المقدسة التي شهدت مجده، فطار من جديد إلى عُمان وظل هناك حتى قُدّر له أن يقرأ في مأتم الملك عبدالله، ثم سافر إلى سوريا ولبنان وقضى في كل منهما زمنًا، ثم عاد إلى القاهرة ليستقر في حفرة على شاطئ النيل.
ـــ ألحان السماء.. أبريل 1959 م
عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني
قرية سنديون بالقليوبية
ردحذف