Comments System

LightBlog

الشيخ عبدالباسط عبدالصمد .. صوت عموم المسلمين


بسم الله الرحمن الرحيم


صوت الإنسان مثل لون عينيه ليس له دخل فيه وليس له دلاله!!.العيون الخُضر مثلاً لا تدل على أن صاحبها مغفل أو ذكي أو حريص أو نواسي الطبع يرتكب الاثم ويفخر به ولا يُبالي. والصوت القبيح قد يكون لصاحب نفس طيبة، والصوت الجميل قد يكون لشيطان رجيم. والشيخ عبدالباسط عبدالصمد له صوت جميل، ونفسية طيبة أيضًا، وعندما تكون له نفسية طيبة وصوت قبيح فلن تكسب شيئًا، فإذا كان لك صوت جميل ونفسية من أي لون فستصبح ثريًا وشهيرًا قبل أن تبلغ الثلاثين، فإذا كان صوتك من معدن صوت الشيخ عبدالباسط فأنت تستطيع أن تدخل دنيا الشركات ورجال الأعمال، وتصبح مؤسِسًا في أكثر من شركة ، وصاحب عمارة في الصعيد وشقة فاخرة في جاردن سيتي، وتليفون أخضر في لون البرسيم!..
والشيخ عبدالباسط يركب الديوان المتوسط في قطار الحياة، وعُمر الإنسان ثلاثة دواوين، ديوان الصبا.. وديوان الشباب.. وديوان الشيوخ، وهو الآن في ديوان الشباب، وعمره ٣١ عامًا وعدة شهور.. وهو يقرأ القرآن منذ عشرين عامًا، وقبل ذلك كان يسمعه أحيانًا في مسجد أرمنت، وأحيانًا عند المقابر.. ولكنه كان يفضل سماعه منبعثًا من ذلك الصندوق السحري الذي اسمه الراديو، وفي عام ١٩٣٩ كان هذا الصندوق أندر من الذهب.. وكان في أرمنت كلها صندوق واحد يبعد عن منزل الشيخ عدة أميال، وكان الشيخ يذهب إلى حيث يوجد الصندوق مرتين في كل أسبوع، مرة في يوم الثلاثاء ومرة أخرى يوم الجمعة، وهذه اللحظات التي كان يقضيها إلى جوار الصندوق هي أسعد لحظات عمره، كان يجلس مستندًا على جدار الدكان والصندوق السحري ينبعث من داخله صوت كأنه السحر.. صوت فيه شجن وفيه قوة وفيه خشوع وفيه رهبة، وفيه دعوة إلى ملكوت الله.. وكان هو صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت. عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني وفي عام ١٩٤٠ بدأ الشيخ عبدالباسط يحترف قراءة القرآن، وكانت أول لياليه في قريته وفي مأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كامله، ثم نقدوه أجره في الصباح، وكان الأجر عشرة قروش فضة كبيرة مثل العيش المرحرح وعليها نقوش بارزة تقول "أنها ضُربت في عهد السلطان". واشترى الشيخ حلاوة طحينية وكرامِلَّة وملبن وفول سوداني ولب، ووضع الباقي في حصالة؛ فقد كان حلمه الكبير أن يقطع تذكرة ويركب القطار إلى بلد بعيد. وفي سن الخامسة عشرة تحقق حلمه الكبير، ركب القطار القشاش من أرمنت إلى قرية مجاورة وسهر هناك حتى الصباح وعاد ومعه خمسة وعشرون قرشًا كاملة. وكانت هذه الليلة هي تاريخ ميلاده، ففي تلك الليلة ولد مقرئ جديد، صوته قوي وجميل وشاب وصحته جيدة، وله أسلوب في القراءة لا يقلد فيه أحدًا، وإنما هو لون جديد. ومِن تلك الليلة بدأت شهرة الشيخ عبدالباسط وانفتحت أمامه قصور العُمَد والأعيان وباشوات الصعيد، وأصبح جوّاب آفاق، يخرج من بيته أول الشهر، فلا يعود إليه إلا في نهايته.. وتزوج وأنجب، وعبر البحر إلى بيت الله الحرام وقرأ في الكعبة الشريفة وعلى مسمع من نصف مليون من البشر، بينهم الهندي والعربي، والتركي وابن القوقاز، والذي من نسل المغول، ثم عاد ليعيش في قريته مرة أخرى. عباقرة التلاوة.. www.3baqera.net وفي عام ١٩٥٠ جاء الشيخ إلى القاهرة ليزور السيدة زينب، وفي ليالي المولد كان يندس في الزحام كل ليلة مجهولاً مغمورًا يتفرج على الأضواء والألعاب والأذكار، ويخلع نعليه ويزحف إلى داخل المسجد ليستمع إلى المقرئين الكبار، وفي الليلة الختامية كان هناك أكثر من مقرئ عملاق يخوضون فيما بينهم معركة حامية لإحياء مولد السيدة.. ثم أدرك التعب هؤلاء المشايخ الكبار فكفّوا عن التلاوة، ودعا بعض الناس الشيخ عبدالباسط إلى القراءة، فهو يستطيع على الأقل أن يقتل الوقت حتى يستريح المشايخ الكبار ويستأنفوا التلاوة. وتقدّم الشيخ عبدالباسط على حذر، وقرأ وهو يتوجس شرًا، والناس أيضًا يتوقعون شرًا، وعندما انتهى من التلاوة كان الفجر على الأبواب وكان المسجد قد ضاق بالناس وخرج من المسجد في الصباح وعلى يديه ألف قُبلة، ومعه أكثر من عقد لإحياء لليالي هنا وهناك، ولأول مرة أيضًا وصل إلى يديه عشرة جنيهات كاملة، ثم عشرون ثم ثلاثون ثم خمسون، وعندئذ قرر اعتزال الصعيد والبقاء في القاهرة إلى الأبد. ونام الشيخ عبدالباسط في لوكاندة الشرق في السيدة، ولم يمضِ عامان حتى وصل صوته إلى الإذاعة، ووصل أجره ١٢ جنيهًا كل نصف ساعة، ووصل أجره في الليلة الواحدة إلى مائة جنية، وغادر الشيخ عبدالباسط إلى أرمنت، ثم عاد ومعه كل العائلة.. شقيقان وزوجة ونصف دستة من الأطفال. وذاع صيت الشيخ عبدالباسط في كل مكان وقفز أجره إلى مائتين ثم إلى ثلاثمائة جنية. والشيخ عبدالباسط طاف حول الكره الأرضية وذهب إلى الشرق وإلى الغرب، ولم يُثر اهتمامه شئ في تلك البلاد إلا المعجبون بـ فنه.. في اندونيسيا مثلاً كان المستمعون يقفون بالساعات ليستمعوا إليه.. وفي مراكش قرأ للملك وحده.. وفي باريس لم يجد مستمعين ولم يج معجبين فشعر بالإختناق وهجرها بعد ثلاثة أيام وطار إلى كازابلانكا، وهو لا يذكر من باريس إلا شارع "نهر السين" وكان يحلو له أن يتنزه فيه كل مساء وهو بالجبة والقفطان. والشيخ عبدالباسط لا يؤمن بالسينما ولا المسرح، ويحب القراءة، وأحسن كاتب قصة في نظره هو عباس محمود العقاد، وطه حسين كويس أيضًا، وهو مدمن قراءة صحف، وأحسن كتاب الصحف هو محمد حسنين هيكل ثم كامل الشناوي ولا يغيظه في الجرائد إلا الكذب.. إنها تكذب كثيرًا، روت عنه أخبارًا مُلفقه، وقصصًا من نسج الخيال، وأطلقت عليه اسم "براندو" وهو بالأسف لإطلاق هذا الاسم عليه لأن براندو ممثل ولأنه أمريكاني.. ولكن الشيخ يتسامح مع الصحفي. والمقرئ فنان، وبعضهم يستطيع أن يصبح مطربًا ويُبسط الناس، ولكن المقرئ يربح أضعاف المطرب، إنه لا يحتاج إلى مؤلف ولا إلى تخت ولا إلى كورال ولا إلى ملحن، لأن الملحن هو علم أحكام القراءات. والشيخ عبدالباسط لم يقرأ شعرًا ولا يهتم بالشعراء، ويسمع أن هناك رجلاً اسمه شوقي ولا يعلم إذا كان حيًا يُرزق أو طواه القبر، ويعرف أن توفيق الحكيم هو رئيس الشعراء. وهو أحيانًا يسمع الأغاني، وأعظم مطرب هو محمد عبدالوهاب وأحلى أغانيه هي في الليل لما خلى، وفايت على بيت الحبايب.. وعبدالحليم حافظ مش بطّال، وأم كلثوم معجزة، فلته لن يجود بمثلها الزمان، إنها في الطرب مثل الشيخ محمد رفعت في التلاوة، كلاهما عبقري، وكلاهما فيه سر من عند الله. ولكن أشرطة الشيخ رفعت التي تذيعها الإذاعة الآن تسيئ إلى الشيخ.. صدى هزيل لصوته الحقيقي الذي هو بحق أعجوبة الزمان. وهو مؤمن جدًا بالحديث الشريف: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".. وهو يعمل لدنياه، يحب الأسفار والرحلات، ويُنفق عن سعة، ويسكن في شقة فاخرة في جاردن سيتي إيجارها ٤٠ جنيهًا كل شهر، وفي مكتبه تليفون أخضر، ولديه عربة شيڤورليه آخر طراز. وهو يعمل لآخرته، ومن أجل الآخرة دخل مع أبورجيلة مؤسسًا في شركة "التيال" ودخل مؤسسًا من غير أبورجيلة في شركة اليايات، وأقام في أرمنت عمارة ضخمة، ولكنه لا يملك أرضًا ولا نقودًا.. ولكنه يملك "الستر" وهو يسأل الله أن يُديم "الستر" عليه. وهو يميل في حياته للعزلة، ويكره الاختلاط، ووسيلته الوحيدة للإتصال بالناس هي الخطابات.. وفي درج مكتبه ألف صورة لنفسه يطويها على خطابات في لون البنفسج، ويُرسل بها إلى المعجبين في كل مكان. هوايته الوحيدة هي قضاء عدة أسابيع كل شتاء في أسوان، والاعتكاف في منزله طوال العام، والعبث بحبات سبحة نادرة خضراء في لون البرسيم.. وفي لون السيارة.. والجبة.. والتليفون.

ـــ ألحان السماء.. أبريل 1959 م
عباقرة التلاوة.. دار التراث القرآني

ليست هناك تعليقات